لا تُمارس جماعة الحوثي سلطتها عبر السلاح وحده، بل عبر آليةٍ أكثر خطورة وعمقًا: التجهيل المنهجي. فكما يوضح أنطونيو غرامشي، لا تقوم الهيمنة الحقيقية على القسر المباشر فقط، بل على صناعة وعيٍ مشوَّه يجعل الخضوع يبدو طبيعيًا، بل واجبًا أخلاقيًا ودينيًا. وهذا تحديدًا ما تمارسه الجماعة في المناطق الخاضعة لسيطرتها.
منذ إحكام قبضتها على مؤسسات التعليم والمساجد، عمل الحوثي على تفكيك المدرسة والجامعة من دورهما التنويري، وتحويلهما إلى أدوات أيديولوجية. لم تعد المناهج وسيلة لبناء العقل النقدي، بل خطابًا تعبويًا يُقدّس الجماعة، ويُقصي المختلف، ويُجرّم السؤال. التعليم هنا لا يُنتج معرفة، بل يُعيد إنتاج الطاعة، ويصوغ أجيالًا ترى السلطة قدرًا لا يُناقَش.
هذا التجهيل ليس نتاج عجزٍ أو فوضى حرب، بل سياسة واعية تهدف إلى منع تشكّل وعي اجتماعي قادر على الربط بين القمع المادي والخطاب الديني المُستخدم لتبريره. فالعقل المتعلّم والناقد يُشكّل خطرًا مباشرًا على أي سلطة تقوم على السلالة والاصطفاء العقائدي.
في هذا السياق، تحارب الجماعة فكرة المثقف العضوي كما صاغها غرامشي؛ ذاك المثقف المنبثق من المجتمع، القادر على تحويل المعاناة اليومية إلى وعيٍ سياسي منظم. ولهذا تُستبدل الكفاءات التعليمية والتربوية بعناصر موالية، وتُحتكر “الحقيقة” و”التأويل”، ويُجرَّد المجتمع من حقه في التفكير المستقل.
عبر التجهيل، تسعى الجماعة إلى خلق توافق قسري داخل المجتمع، حيث يتحوّل الخضوع إلى سلوك يومي، وتُعاد صياغة الوعي الجمعي بما يخدم بقاء السلطة. وهنا تتجلّى الهيمنة في أقسى صورها: حين لا يعود المستبد بحاجة إلى قمعٍ دائم، لأن المجتمع نفسه يُعيد إنتاج شروط إخضاعه.
إن ما تمارسه الجماعة هو حرب مواقع داخل الوعي، هدفها تعطيل أي إمكانية لبناء هيمنة مضادة. ولذلك، فإن مواجهة هذا المشروع لا تقتصر على البعد العسكري، بل تبدأ من استعادة التعليم كفعل تحرري، ومن إعادة الاعتبار للعقل النقدي بوصفه أخطر سلاح في مواجهة السلطة المغلقة.
السلطات التي تبني حكمها على التجهيل لا تخشى السلاح بقدر ما تخشى الوعي؛ لأن الوعي، حين يتشكّل، يُسقط الهيمنة من داخلها.