آراء

عدنُ المُتعبة: سينما توثّق الغياب السياسيّ وحضور الخراب

د. مجيب الرحمن الوصابي

|
قبل 3 ساعة و 26 دقيقة
A-
A+
facebook
facebook
facebook
A+
A-
facebook
facebook
facebook

تنبثق تجربة المخرج اليمني عمرو جمال من قلب عزلة سينمائية خانقة، لترسم ملامح هوية بصرية يمنية نادرة، تتجاوز حدود الجغرافيا لتصافح الإنساني في كليته. ففي فيلميه (عشرة أيام قبل الزفة-2018 و(المرهقون -2023)، يشيّد عمرو جمال معمارًا دراميًا متصلًا يتتبع انكسارات الروح اليمنية، من إرادة التشبث بالحياة إلى ارتعاشة العجز أمام وطأتها، في مشروع سينمائي يمكن قراءته بوصفه سجلًا بصريًا لتحولات مدينة وعدد من القيم التي كانت تشكّل معناها.

 

في عشرة أيام قبل الزفة، تجلّت عدن كمدينة تحاول استعادة أنفاسها من الرماد. يبرز الزواج هنا كفعل مقاومة شبه أسطوري؛ لم يكن الحب ترفًا عاطفيًا أو ملاذًا رومانسيًا، بل مشروع استرداد للذات من مخالب الفوضى. الحرب حاضرة بوصفها خلفية ضاغطة، لكنها ما تزال تسمح للإنسان بالمبادرة، بالمناورة، وبالتفاوض مع القسوة اليومية، في مدينة تحاول أن تعيش رغم كل شيء.

 

أما المرهقون، فينقلنا إلى نفق أشد عتمة، حيث يتحول مشروع خلق الحياة ذاته إلى عبء أخلاقي، وإلى استعارة كبرى لوطن تُصادَر فيه الخيارات وتُفرض فيه الأقدار. لم تعد الحرب حدثًا طارئًا، بل بنية وجودية تتغلغل في تفاصيل اليومي: انقطاع الكهرباء والماء، تأخر الرواتب، الفقر، أمراء الحرب وانسداد الأفق الاجتماعي. هنا، لا يُطرح السؤال: كيف نعيش رغم الحرب؟ بل كيف نعيش حين تصبح الحياة نفسها عبئًا لا يُحتمل؟

 

ويبرع عمرو جمال في تحويل مدينة عدن من مجرد حيز مكاني إلى بطل درامي يفيض بالذاكرة. تتحرك الكاميرا بين كريتر بقلبها الشعبي، والتواهي برمزيتها السياسية والتاريخية، في توثيق بصري لنمط البناء المعماري، والبيوت القديمة، ومنارة عدن، وللتعايش المذهبي الفطري بوصفه جزءًا من هوية المدينة لا شعارًا أيديولوجيًا. هذا الاشتغال يمنح الفيلم قيمة توثيقية عالية، وإن كان العمل قد افتقد لبعض الرموز الكبرى مثل صهاريج عدن، التي كان يمكن أن تشكّل جسرًا بصريًا يربط الإنهاك المعاصر بعراقة الصمود التاريخي للمدينة.

 

كما يحرص جمال على إدراج الأغاني الشعبية العدنية في مشاهد متعددة، ما يمنح الفيلم بعدًا سمعيًا يحاكي نبض المدينة وحياتها اليومية. هذه الأغاني، التي تتردد في الأسواق والشوارع وفي الاحتفالات المحلية، تعمل على تعميق الطابع الواقعي للفيلم، وربط الحكاية بالهوية الثقافية الحية للمدينة، مع خلق نوع من التوازن بين قسوة الواقع وظلال الفرح المبعثرة في النسيج الاجتماعي.

 

من أكثر لحظات الفيلم دلالة، تلك الإشارة الرمزية الصامتة إلى توقف بث قناة عدن من مدينة التواهي أقدم قناة تلفزيونية في الجزيرة العربية وانتقال بثها إلى الرياض. لقطة تمر بهدوء، لكنها تختزل مأساة السيادة والقرار، حين يغترب الصوت عن حنجرته، وتتحول المدينة إلى صدى يُدار من المنافي، لا من شوارعها.

 

هذا التحول من سينما الحكاية إلى سينما الاختناق يتجسد بوضوح في أداء خالد حمدان، الذي انتقل من شخصية فاعلة، نابضة بالحيوية في (عشرة أيام قبل الزفة)، إلى كائن يلتهمه الصمت والارتباك في (المرهقون). يعتمد حمدان على اقتصاد تعبيري لافت، تتحول فيه نظرة العين المكسورة والجسد المنحني إلى بلاغة تتجاوز الحوار والميلودراما، وتعكس نضجًا تمثيليًا يتناغم مع رؤية المخرج.

 

يوثق الفيلمان بدقة آثار الحرب الاجتماعية والنفسية: القصف والدمار، انقطاع الخدمات، مظاهر السلاح والفوضى، الأطقم العسكرية التي تعربد في المدينة، ومفارقة سلطة سياسية متمثلة في مجلس رئاسي يحكم من خارج اليمن من الرياض، في مقابل واقع داخلي متروك للانهيار. وفي هذا السياق، يبرز حضور إعلاميين شرفاء يرفضون التطبيل والتزييف، في مواجهة ضجيج دعائي أجوف.

 

ومع هذا النضج الفني، يبرز جدل حول إقحام الفتوى الدينية التي تُبيح الإجهاض في (المرهقون)، بصيغة تقريرية مباشرة بدت خارج السياق الحميم والمحايد الذي سعى الفيلم عمومًا إلى ترسيخه. هذا التدخل، المنسوب إلى خطاب ديني من خارج البيئة المحلية، أربك النسيج الواقعي للعمل، وأدخل حلًا دراميًا خارجيًا كان يمكن الاستغناء عنه لصالح منطق الفيلم الداخلي.

 

إن التباين في تلقي الفيلمين، وميل بعض المشاهدين إلى دفء عشرة أيام قبل الزفة مقابل قسوة (المرهقون)، لا يعكس تراجعًا فنيًا بقدر ما يعكس أمانة المخرج في رصد تحوّل الوجع نفسه. فهنا لا نواجه فيلمين متناقضين، بل مرحلتين من التعب: الأولى تحاول النجاة بالحلم، والثانية تواجه استحالة الحلم ذاته.

 

في المحصلة، تشكّل سينما عمرو جمال شهادة بصرية شجاعة عن مدينة تُترك للإنهاك بينما يُدار قرارها من وراء البحار. إنها سينما ترفض التجميل، وتصرّ على النظر مباشرة في عيني التعب، موثّقةً عدن لا كما يُراد لها أن تُرى، بل كما تعيش، وتئن، وتقاوم بصمت.

 

مجيب الرحمن الوصابي

جميع الحقوق محفوظة © قناة اليمن اليوم الفضائية
جميع الحقوق محفوظة © قناة اليمن اليوم الفضائية