سجّلت العملة اليمنية (الريال) تراجعاً قياسياً في محافظة عدن جنوب اليمن والمناطق الخاضعة لسيطرة الحكومة ما فاقم من الأوضاع المعيشية الصعبة أصلاً لملايين اليمنيين.
وتجاوز سعر صرف الريال مقابل الدولار الواحد 1400 ريال، مقابل 215 ريالاً قبل الحرب التي اندلعت أواخر مارس عام 2015، ما أدّى إلى ارتفاع كبير في أسعار السلع والخدمات والخبز وأجور النقل بين المحافظات وداخلها، بالتزامن مع أزمات مستمرة في الكهرباء والمشتقّات النفطية والغاز المنزلي.
أما في العاصمة اليمنية صنعاء والمحافظات الخاضعة لسيطرة الميليشيا الحوثية فيحافظ سعر صرف الريال مقابل الدولار على استقراره ويسجّل أقل من 600 ريال، مع منع الميليشيا تداول العملة اليمنية الرسمية الجديدة المطبوعة في شركة "روسنفت" الروسية.
وتقول الحكومة اليمنية إن التراجع التاريخي للعملة يعود إلى قيام التجّار وشركات الصرافة بعمليات مضاربة وخلق طلب غير حقيقي من شأنه الإضرار بحالة الاستقرار في سعر الصرف في السوق.
وتعهدت الحكومة خلال الشهور الماضية بالاستمرار في تعزيز التنسيق بين السياستين النقدية والمالية للحفاظ على قيمة العملة الوطنية وتعزيز موارد الدولة عبر الاستيراد المدروس وضبط وترشيد الانفاق العام، بالتزامن مع خطوات أخرى ومهمة في تصحيح مسار الاقتصاد الوطني وفي مقدّمتها تجفيف منابع الفساد واتخاذ إجراءات فيما يخص ترشيد الانفاق وتحسين الإيرادات، وتعزيز مبدأ الشفافية والمساءلة، إلا أن تلك الإصلاحات الاقتصادية التي سبق وأن طالب بها خبراء ومنظّمات دولية وإقليمية لم تجد حتى الآن طريقها إلى التطبيق.
وتعوّل الحكومة على تفعيل الدعم المقدّم من المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة وترتيبه بحسب الاحتياجات والأولويات، والتنسيق الجاري مع شركاء اليمن في التنمية لتقديم مزيد من الدعم خلال الفترة القادمة.
وكان البنك المركزي عقد في الـ 12 من يوليو اجتماعاً استثنائياً اعتبر فيه أن ما يحدث في سوق صرف العملات الأجنبية "حركة غير مبرّرة إما بدوافع سياسية أو في إطار الحرب الاقتصادية التي تشنّها الأجهزة الاستخبارية للميليشيات".
وتعهد البنك المركزي بـ "تشديد الإجراءات العقابية والتنظيمية والتعامل بصرامة مع المتماهين مع عمليات المضاربة بهدف الإضرار بمعيشة الناس والتأثير على الاستقرار في البلد".
خطة الحوثيين
ويؤكد فريق خبراء الأمم المتحدة المعني باليمن (لجنة العقوبات) في تقرير قدّم إلى مجلس الأمن الدولي في فبراير الماضي أن الحوثيين اعتمدوا خطة استراتيجية لاستهداف المقدّرات الاقتصادية للحكومة الشرعية، ما أدّى إلى عدم الاستقرار الاقتصادي في المناطق التي تسيطر عليها الحكومة في اليمن.
ومن التدابير التي اتخذها الحوثيون في هذا الصدد حظر الأوراق النقدية التي يطبعها البنك المركزي في عدن، واعتماد سياسات لتقسيم القطاع المصرفي والاقتصادي، ومهاجمة أصول شركات الاتصالات التي تتخذ من عدن مقراً لها، وتهديد ومهاجمة الموانئ والمنشآت النفطية والسفن العاملة في تصدير النفط، وإقرار قانون جديدة لحظر الفائدة على المعاملات المصرفية والتجارية.
وتتجلّى في جميع أنحاء اليمن الآثار الناجمة عن السياسات المثيرة للانقسام وغير الشفّافة والقائمة على الاعتبارات السياسية أو الأيديولوجية التي اعتمدها الحوثيون، إذ يشير تقرير فريق خبراء الأمم المتحدة إلى أن اليمن ما برح يشهد ازدواجية نظام العملة، وازدواج أسعار الصرف، وفرض القيود على الواردات، وازدواج الضرائب على السلع، والسعي إلى الكسب الريعي في شكل تحصيل ضرائب ورسوم بصورة غير مشروعة.
وقدّر رئيس مجلس الوزراء الدكتور معين عبد الملك في فبراير الماضي خسائر الحكومة جرّاء توقّف الصادرات النفطية نتيجة هجمات الحوثيين على موانئ التصدير بما يقارب مليار دولار.
وتعاني اليمن من العديد من الاختلالات الهيكلية التي تؤثّر في استقرار العملة والاقتصاد بشكل عام، مثل الدين المحلي المرتفع، والهيكل الاقتصادي الريعي الذي يعتمد بشكل كبير على قطاع النفط والغاز، ومعدّلات التضخّم المرتفعة، وجاءت الحرب القائمة لتزيد من حدّة هذه الاختلالات وتضيف عوامل إضافية ازدادت تعقيداً مع مرور سنوات الحرب الثماني.
ودقّ خبراء اقتصاديون ناقوس الخطر، وطالبوا الأطراف السياسية بالعمل من أجل سياسة نقدية موحّدة وإدارة مستقلّة للبنك المركزي تحافظ على العملة وتشرف على القطاع المصرفي من منطلق مهني وفقاً لمعايير العمل المالي الدولية.
وحذّروا من أن التداعيات والآثار الكارثية على مستوى النشاط الاقتصادي والمجتمع بشكل عام، ستستمر في حال استمر الانقسام في السياسة النقدية، وسيدفع الثمن الأكبر المجتمع الذي يعاني ويلات الحرب وتدهور الحياة المعيشية واستمرار نزيف العملة الوطنية وزيادة معدّلات التضخّم.
وشدّد الخبراء على ضرورة "استقلالية البنك المركزي، وتحييده عن الصراع السياسي، والمماحكات، لإنقاذ البلاد من كارثة اقتصادية، كون القطاع المصرفي، يمثّل القلب للاقتصاد الوطني بشكل عام".
وخلال الفترة من 25 مايو إلى 8 يونيو الماضي قام فريق من خبراء صندوق النقد الدولي بقيادة جويس وونغ، ببعثة افتراضية ووجاهية في العاصمة الأردنية عمّان مع السلطات اليمنية.
وأصدرت البعثة بياناً أكدت فيه أن الهجمات على مرافق تصدير النفط في أكتوبر 2022 حرمت الحكومة من معظم إيراداتها بالعملة الأجنبية والتي تساوي حوالي نصف إيراداتها الإجمالية. وأدّى هذا إلى جانب ارتفاع أسعار النفط عالمياً إلى اتساع العجز في المالية العامة إذ وصل إلى 2.5% من إجمالي الناتج المحلي في 2022. ومن المتوقّع أن يتسع هذا العجز أكثر في عام 2023 إذا لم تستأنف صادرات النفط بالرغم من خفض النفقات الضرورية.
ولفتت بعثة صندوق النقد الدولي إلى أن هناك حاجة ملحّة للدعم الخارجي لرفع الضغوطات عن التمويل، وخفض التمويل النقدي، وحماية سعر الصرف واستقرار الأسعار الذي تحقّق بصعوبة بالغة. كما شدّدت على ضرورة إجراء المزيد من تحسينات الحاكمية إلى جانب جهود معالجة الفجوات في البيانات وبخاصة على صعيد الدين المحلي والخارجي لتعزيز الشفافية والمساعدة في نهاية المطاف في تحفيز المزيد من التمويل