آراء

تجربة المؤتمر الشعبي العام..الحاجة الوطنية والضرورة السياسية

د. عبدالحفيظ النهاري*

|
08:36 2020/08/25
A-
A+
facebook
facebook
facebook
A+
A-
facebook
facebook
facebook

تتزامن الذكرى الـ 38 لتأسيس المؤتمر الشعبي العام مع واقع وظرف وطني هو أشبه ما يكون بالظروف التي مر بها اليمن في عقد السبعينات، في صورة الصراع السياسي والأيديولوجي القائم الذي اتخذ من اليمن ساحة له وشكل امتدادا للتبعية الخارجية وجسد حيزا لصراعات المنطقة العربية واستقطابات العالم.

 

حيث دفع اليمن ثمنا باهضا من أمنه واستقراره واستقلاله، في تلك المرحلة، حتى قاد الزعيم علي عبد الله صالح الجميع إلى الحوار الوطني، كخيار وحيد ينتشل اليمنيين من صراعاتهم وينهض بعملية السلام والاستقرار والاستقلال والتنمية.

 

ومن خلال اجتماع القوى السياسية المتصارعة إلى طاولة الحوار، تبلور مشروع الميثاق الوطني ـ الذي عمل الرئيس القائد ـ آنذاك ـ بوعي وطني وإدراك عال على إنجازه مع كل القوى الوطنية كرؤية وطنية موحدة تفسح الطريق إلى السلام والعمل الوطني المشترك، ليصبح الميثاق الوطني، وثيقة وطنية جامعة لليمنيين تمثل خياراتهم المستقبلية، وتستقرئ التاريخ والهوية باعتدال ووسطية وتناهض العنف والتطرف وتجسد الشراكة الوطنية وتعزز الجبهة الوطنية وتستجمع الطاقات من أجل السلام والتنمية والاستقرار والاستقلال.

حيث انطلق الميثاق من الضرورات والأولويات الوطنية وليس من المنطلقات الأيديولوجية الحزبية، والمذهبية، والسلالية، والمناطقية المتطرفة والمتعصبة، ليشكل دليلا نظريا وفكريا للعمل الوطني المشترك في عهد اتسم بالصراعات والانقسامات والتبعيات الأيديولوجية والسياسية، الذي مثلت اليمن إحدى ساحاته المباشرة.

وبعد أن تبلور مشروع الميثاق وتم نقاشه شعبيا من خلال المؤتمرات الشعبية الفرعية التأسيسية، ثم الاستفتاء عليه شعبيا، وإتاحة التعديلات والملاحظات على نصوصه، أصبح بمثابة العقد الوطني والاجتماعي الأعلى، الذي يمكن أن تستوحى منه ملامح الدستور والقوانين وآليات وبرامج العمل الوطني المشترك.

وكان لابد أن تكون هناك رافعة وطنية بحجم المشروع تنهض بمضامين الميثاق الوطني، فكان إنشاء تنظيم المؤتمر الشعبي العام، والمؤتمرات الفرعية التأسيسية هي الرافعة التنظيمية والشعبية الموفقة، وآلية تنفيذ برنامج  العمل السياسي الوطني الذي يمثل البعد العملي والتنفيذي لمضامين الميثاق الوطني والعمل السياسي الوطني.

وكان المؤتمر الشعبي العام، هو المظلة الوطنية التي تأسست على الديمقراطية من أول لبنة لها، إذ مثله  700 عضو انتخبتهم المؤتمرات الفرعية في أنحاء الجمهورية العربية اليمنية، و 300 عضو بالتعيين يمثلون الشرائح الوطنية من الكفاءات والتكنوقراط والخبرات السياسية والفكرية الوطنية. وتحت شعار "من أجل ميثاق وطني يجسد عقيدة الشعب وأهداف الثورة" انعقد المؤتمر الأول للمؤتمر الشعبي الام في 24 ـ 28 أغسطس 1982. ـ مع أخذنا في الاعتبار المؤتمرات التكمليلية التي انعقدت في المحافظات الجنوبية والشرقية بعد الوحدة ليصبح التنظيم مكتمل التمثيل للتراب الوطني ـ

وكما رأينا فقد تأسس المؤتمر الشعبي العام على مبدأ الديمقراطية الشعبية، وتشكل ديمقراطيا بتمثيل القوى الاجتماعية والسياسية بمصداقية عالية، سواء على مستوى النظرية الفكرية والسياسية، أو على مستوى برنامج العمل السياسي، التي جسدت أولويات الجميع، وتطلعات الجميع، ومشاركة الجميع.

واستطاع المؤتمر الشعبي العام بعد مساهمته في تحقيق الوحدة الوطنية مع كافة الشركاء الوطنيين، وغيرها من التحولات التاريخية الكبرى أن يتكيف مع مرحلة التعددية السياسية ويعيد النظر في بنيته وأهدافه التنظيمية على أسس التعددية والتحول من تنظيم وطني جامع إلى تنظيم انتخابي تنافسي، مع الأخذ بالاعتبار جملة التحديات التي واجهها وطبيعة التآمر والتكالب على الوحدة الوطنية والمشروع الديمقراطي داخليا وخارجيا.

لماذا نستدعي الميثاق والمؤتمر اليوم ؟

اليوم وبعد 38 عاما من التأسيس يمر اليمن بظروف صعبة من الصراعات الأيديولوجية والسياسية والاجتماعية هي أشبه في بعض وجوهها بتلك التي حدثت قبل أربعة عقود، مع التأكيد على أن ما يحدث اليوم لم يكن فشلا لتجربة المؤتمر الشعبي العام، أو نتيجة لسياسات خاطئة، أو لخلل في التجربة، كما تريد بعض القوى السياسية الحاقدة عليه أن تصور ذلك، بل إن ما يحدث اليوم هو استنساخ جديد لوضع ما قبل المؤتمر الشعبي العام، مع بعض الفوارق في طبيعة الصراع وطبيعة القوى المتصارعة.

كان الصراع في عقد السبعينات والنصف الأول من الثمانينات هو صراع بين معسكرين رئيسيين هما: معسكر القوى الثورية التقدمية الحداثية ذات البعد الاشتراكي، والقومي، والمدني المستنهض للقوى التحررية والتقدمية من ربقة الاستعمار والاستبداد والرجعية بكل أشكالها، وللتحرر من الكوابح الاجتماعية والثقافية والاقتصادية والسياسية، من جهة، ومعسكر الرجعية والقوى التقليدية الاستبدادية بكل أشكالها، من جهة أخرى، وكانت القوى الدينية هي المناهض الأول للمشروع التحديثي الوطني والقومي والإنساني بقيمه الاشتراكية التقدمية. حيث حشدت قوى الرجعية كل طاقاتها لمناهضة التحديث ومناهضة هدم وإعادة بناء العلاقات الاجتماعية والثقافية والاقتصادية لصالح الشعوب والطبقات المستبعدة، وتفكيكا لآليات الاستبداد الاجتماعي والسياسي والاقتصادي.

وجاء الميثاق وتنظيم المؤتمر ليمثل مشروع إجماع وطني متوازن يحقق الاستقرار والاستقلال والتنمية بمشاركة الجميع ويفكك الهويات العصبوية البدائية لما قبل الدولة: المذهبية، والسلالية، والمناطقية، والدينية، والحزبية، والأيديولوجية، لصالح المشروع الوطني الجامع والهوية الوطنية الجامعة، وبناء الدولة المركزية و تعزيز النظام الجمهوري، وتحقيق التنمية.

اليوم عاد الصراع بوجه أكثر تخلفا نتيجة إصرار القوى الوطنية المتراجعة والفاشلة على تخريب ما بناه المؤتمر الشعبي العام من صيغ ومؤسسات وقيم وطنية على مستوى الدولة والتنمية والديمقراطية والشراكة.

ومع غروب شمس المد الإيديولوجي الاشتراكي والقومي وإعادة إنتاج الأصوليات الدينية، أصبحت القوى الأصولية الإرهابية والهويات الدينية المتطرفة هي الخارطة الجديدة للصراع في منطقة الشرق الأوسط بين معسكرين دينيين أصوليين متطرفين كبيرين هما: المعسكر السني، والمعسكر الشيعي، باستقطابات عسكرية وأمنية وعقائدية حادة وأليمة، ووقع الوطن العربي كله في فخ الثقافة التقليدية والمشروع الديني السلفي، الماضوي، الذي لا ينتج إلا الإرهاب والتطرف والحروب والتمزق، وهو المشروع الذي مثلت أحداث الربيع العربي ذروة مأساته من خلا ل محاولة إعادة تمكين القوى التقليدية المتخلفة، من خلال شعارات كاذبة ومناقضة لطبيعتها وسلوكها وقيمها، شعارات لا تمت إلى تلك الأصوليات بصلة.

وهكذا لم يعد الصراع اليوم قائم بين قوى الحداثة وقوى التقليد كما كان سابقا، بل أصبحنا أمام صراع أكثر تخلفا، صراع ديني ـ ديني ليس فيه أي مشروع دنيوي لصالح الأمة والشعوب ولصالح التنمية والاستقرار، وأصبح هذا الصراع خاضعا للتغذية والاستقطاب الدولي والإقليمي لتمرير مشروع إضعاف الأمة والهيمنة الإمبريالية عليها من جديد وإعاقة الشعوب والأوطان عن التقدم وعن عبور فجوة التخلف. وأصبح اليمن من جديد ساحة لهذا الصراع المذهبي ـ الديني الجديد وضحية لاستقطابات المشروع الشيعي ـ السني.

وبينما كان الصراع قبل أربعة عقود تقوده الفكرة التقدمية، والتحديثية، من أجل عبور فجوة التقليد والتخلف إلى مستقبل حداثي، أصبح الصراع اليوم بعد الإمعان في تخريب الدولة وإنجازات المؤتمر الشعبي العام الوطنية، بين القوى التقليدية نفسها، أي بين قوى الإمبريالية والتخلف، وصارت القوى التقدمية التحديثية المدنية خارج الصراع وخارج الفعل الوطني.

استُهْدِفَ المؤتمر الشعبي العام في وجوده وفي مشروعه الوطني الجامع، من قبل القوى الدينية المتطرفة، مثلما استهدف قبل ذلك من قبل القوى الراديكالية والتقدمية التي لا تقبل بالاعتدال والوسطية ولا تقبل بغير تفكيك كل البنى التقليدية جذريا، ذلك لأن المؤتمر مثل تيار الاعتدال والوسطية الوطنية، وغلب السلام الاجتماعي على الصراع الاجتماعي تجنبا للأثمان الباهضة التي يحتاجها التغيير والتحول الجذري.

ومنذ اندلاع موجة الربيع العربي، وما قبلها، اسْتُهْدِفَتْ، الثورة، والدولة، والديمقراطية، والوحدة، والهوية الوطنية الجامعة، من خلال التخريب الذي مارسته حركات التطرف الإرهابي الديني واستغلالها لمناخات الديمقراطية والتعددية لضرب المشروع الوطني برمته، وإعاقة التقدم، والعودة بنا إلى المربع الأول ـ مربع 26 سبتمبر 1962 ـ مربع استعادة النظام الجمهوري وقيمه ومضامينه ومؤسساته ـ وذلك بمباركة وتوطؤ واستمراء بقايا القوى التقدمية الحاقدة على المؤتمر وخروجها عن الفاعلية التاريخية، وتحالفها مع القوى التقليدية الدينية السلفية الماضوية، ومشروعها في إعادة إنتاج الصراع التاريخي الديني والسلالي والمذهبي.

وقد ساعد على إحياء وتنمية التطرف المذهبي والتطرف المضاد سياسات وتمويل وتشجيع إقليمي ودولي، وسياقات تضارب المصالح ورغبات الهيمنة، وإعاقة الأمة عن التقدم.

الميثاق الوطني حاجة وطنية وضرورة سياسية:

لهذه الأسباب وغيرها يعود حضور الميثاق الوطني بقوة إلى الواجهة اليوم، باعتباره مشروعا وطنيا جامعا شكل رافعة وطنية ناجحة لبناء السلام والتنمية والشراكة الوطنية، وتعود الحاجة الماسة إلى التنظيم الوطني الحامل لمضامين الميثاق ولبرنامج العمل السياسي الوطني المعبر عن أولويات المرحلة.

تعزز الضرورات الوطنية الحالية الملحة، أهمية التمثل التاريخي والسياسي للميثاق الوطني كدليل نظري وتمثل تجربة المؤتمر الشعبي العام كبرنامج سياسي وطني، التي تحظى بتقدير كل اليمنيين، وتجربته التنموية التي ما تزال صامدة بالرغم مما طالها من التخريب خلال عشر سنوات من التخريب والفوضى والحقد.

وإذا نظرنا من حولنا فلن نجد مشروعا وطنيا يرتقى إلى مستوى الميثاق الوطني ولن نجد تنظيما وطنيا مؤهلا لحمل المشروع الوطني الجامع سوى المؤتمر الشعبي العام. ذلك أن الحرب الحالية قد أنتجت أمراء حرب وجماعات إرهابية مسلحة متطرفة من كل نوع، وحرضت على الكراهية الطائفية والمناطقية والمذهبية والسلالية، والأيديولوجية، واستهدفت وحدة النسيج الاجتماعي، وخلقت الثارات والأحقاد التي ستبقى لعقود ما لم يتم الاستدراك من خلال مشروع بحجم الميثاق، وآلية وطنية بحجم المؤتمر، وزعامة بحجم علي عبد الله صالح.

وإذا تمعنا في الواقع السياسي اليوم فلن نجد رؤية أو مشروعا وطنيا يمكنه أن يضاهي الميثاق الوطني، ولن نجد تنظيما يضاهي المؤتمر في علاقته مع الشعب، وعلاقته بالسلام وبالتنمية، وبالاستقلال والاستقرار.

ذلك أن المشاريع القائمة من حولنا كلها مشاريع صراع وليست مشاريع وفاق، حتى مخرجات الحوار الوطني التي يتغنى بها الكثير دون تأمل، أصبحت سببا رئيسيا من أسباب الصراع والحرب، ولم تعد حاملا للتوافق والسلام الوطني.

أما المبادرة الخليجية كآلية للانتقال الديمقراطي، فهي معطلة منذ أن خرجت السلطة الانتقالية عن التوافق وعن الاستحقاقات الانتقالية والديمقراطية المزمنة، ومارست إقصاء القوى الوطنية الشريكة في تلك الاستحقاقات الوطنية، وهو ما يطالب المؤتمر بإحيائه ـ على مستوى تطبيق المبادرة ـ وذلك باستعادة الشراكة والتوافق بين الأطراف الموقعة على المبادرة وآليتها التنفيذية، بحسب نصوص المبادرة.

وأما القرارات الدولية فقد أصبحت جزءا من انتقاص السيادة الوطنية من خلال وضع اليمن تحت وصاية البند السابع، وتكريس أسباب الحرب وستمراء معاناة الشعب اليمني.

لم يستطع معسكر الشرعية حتى اليوم تقديم مشروع مدني حداثي للدولة المراد استعادتها، بل تورط في منح الصبغة المذهبية والطائفية التقليدية للحرب بين القطبين المتصارعين، وأعاد إنتاج الثقافة الدينية المذهبية الصراعية المتطرفة التي تتعارض مع استعادة الدولة المدنية الديمقراطية الضامنة لحقوق الجميع ومساواتهم في المواطنة والحقوق والواجبات دون تمييز.

لهذه الحيثيات وغيرها نحن بحاجة إلى إعادة مضامين الميثاق الوطني إلى الواجهة، وإعادة قراءة تجربة المؤتمر وبرنامجه السياسي، بعد 38 عاما من التأسيس، واستلهام التجربة والمشروع، واستعادة دور الميثاق الوطني في توحيد الطاقات الوطنية وإعادة الاعتبار لتجربة المؤتمر والكف عن شيطنته وتخريب تجربته الوطنية الرائدة.

وهذه دعوة في مستواها الأول لتنظيم المؤتمر الشعبي العام،  وفي مستواها الثاني لكل القوى الوطنية المتصارعة التي لم تقدم لنا حتى الآن سوى بدائل لاستمرار الصراع ولم تقدم بدائل السلام والاستقرار والاستقلال والتنمية، وفي مستواها الثالث للقوى الحداثية والمدنية المعنية بأوليات بناء الدولة اليمنية الحديثة على قيم السلام، والشراكة، والمواطنة المتساوية، وعلوية الدستور والقانون.

وكل عام والمؤتمر الشعبي العام بخير، والشعب اليمني صاحب المصلحة العليا من السلام والجمهورية والوحدة والديمقراطية والتنمية،بخير.

 

*نائب رئيس الدائرة الإعلامية للمؤتمر الشعبي العام

جميع الحقوق محفوظة © قناة اليمن اليوم الفضائية
جميع الحقوق محفوظة © قناة اليمن اليوم الفضائية